" ليست الحقيقة هي مشكلة الفلسفة، بل و ليست حتى مشكلة أمام الفلسفة: فما سميناه بالوعي الصحيح إنما يعني بالضبط أن كل سؤال، يخص إمكانية الفلسفة، و أن كل تأمل "منهجي"، بخصوص الخطاب في شموليته، هما، في آن معا، سطحيان و لا معنى لهما على وجه الدقة. إن آخر الحقيقة ليس هو الخطأ، و إنما هو العنف، و رفض الحقيقة و المعنى و التماسك، و من ثم اختيار الفعل السالب أو اللغة المفككة و الخطاب التقني الذي يقدم الخدمة دون طرح السؤال لخدمة ماذا، و لزوم الصمت، و هو تعبير عن الشعور الشخصي الذي يريد أن يكون شخصيا.
إن الذات التي يصدر عنها الخطاب أو فاعل الخطاب هو الخطاب نفسه، و ليس موضوعه شيئا آخر سوى ذاته كذلك، أما "مشكل الحقيقة"، إذا لم يفهم بالمعنى العلمي و لكن بالمعنى الفلسفي، فهو ليس تطابق الفكر مع الواقع و إنما تطابق الإنسان مع الفكر، أي مع الخطاب المتماسك.
سيبدو هذا التعبير فارغا و متناقضا-فقط-طالما بقينا ضمن الخطاب التقليدي، الخطاب الذي يزعم التفوق على الآخر في الخطاب، أي على الوجود، و ينسى أن هذا الوجود لا ينكشف إلا في الخطاب، و أن الخطاب لا يخرج أبدا عن ذاته...
صحيح أن الفلسفة كلام صادر عن فرد مشخص، لكنه فرد مشخص قرر أن يفهم، في وضعية ملموسة، لا فقط وضعيته الخاصة و لكن أن يفهم كذلك فهمه لتلك الوضعية. فأنا الذي أعرف أني لست حرا في هذا العالم، و أنه عالم العنف و الشقاء و الجوع و التنكيل و الموت العنيف، لكني أنا كذلك من يريد أن يفكر في هذا العالم تبعا للمعنى الذي يمتلكه، و من ثم أريد تحقيق معنى العالم بواسطة الخطاب و العقل و العمل المعقول".
حلل النص و ناقشه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" يعرف فن الخفاء لدى الإنسان أعلى درجاته، فالوهم و المجاملة و الكذب و الخيانة و النميمة و التكبر.. كل ذلك يمثل قاعدة و قانونا يجعلان ظهور غريزة الحقيقة مستقيمة و خالصة بين الناس أمرا لا يمكن تصوره. فهم قد غرقوا غرقا في الأوهام و الأحلام، و بصرهم لا يقوم سوى بالانزلاق فوق سطح الأشياء و يرى فيها "صورا" و إحساسهم لا يؤدي أبدا إلى الحقيقة بل يكتفي بتقبل مثيرات و باللعب فوق ظهر الأشياء كما لو كانوا يلعبون على أصابع "بيانو".
ما هي الحقيقة إذن؟ هي عدد متحرك من الاستعارات و الكنايات، و إضفاء صورة الإنسان على الأشياء ، و باختصار هي مجموعة من العلاقات البشرية، رفعت شعريا و بلاغيا و نقلت و نمقت و ظهرت لشعب، بعد استعمال طويل، صلبة مقننة و قسرية.
إن الحقائق أوهام نسي الإنسان أنها كذلك، و استعارات استعملت و فقدت قوتها الحسية، و قطع نقدية فقدت بصماتها، و أصبحت تعتبر منذئذ لا قطع نقدية بل معدنا...".
حلل النص و ناقشه
.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" لا تتطلب الحقيقة أية علامة، إذ يكفي أن نحصل على أفكار صحيحة ليرتفع كل شك... فإذا افترضنا أن العقل يدرك موضوعا جديدا لم يوجد من قبل في الواقع، و أنه انطلاقا من هذا الإدراك استنتج عن حق أفكارا أخرى، فإن هذه الأفكار ستكون حقيقية بدون أن تكون محددة بأي موضوع من مواضيع العالم الخارجي...
إن هذه الأفكار لا تتعلق إلا بقوة العقل و طبيعته، فحيث نجد أنفسنا إزاء أفكار حقيقية، نعرف بيقين تام، أن موضوعنا يتعلق بقوتنا العاقلة، بينما لا يقابلها في الواقع الطبيعي أي موضوع. فإذا أردت مثلا، أن أكون مفهوم الكرة، فإنني أتصور نصف دائرة حول محوره. و عن هذا الدوران تنشأ الكرة. و ليس من شك في أن هذه الفكرة حقيقية، بالرغم من أننا نعلم أنه لم تنشأ في الواقع أية كرة بهذا النحو.
فنحن، إذن لكي نتيقن من الحقيقة لسنا بحاجة إلى أية علامة سوى امتلاكنا للفكرة الحقيقية نفسها.
حلل النص و ناقشه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" إن مفهوم الحقيقة ضروري للنزعة النقدية كما نعرضها. إن ما ننتقده في نظرية من النظريات هو ادعاؤها الحقيقة. و ما نسعى إلى تبيانه عندما ننتقد نظرية ما هو، بطبيعة الحال، أن هذا الادعاء ليس قائما على أساس، و أن النظرية خاطئة.
إن الفكرة المنهجية الأساسية التي بمقتضاها نستطيع أن نستخلص درسا من أخطائنا، لن تفهم دون استحضار الفكرة المنظمة للحقيقة:
فحين نرتكب خطأ ما فهذا يعني بالضبط أننا، حسب المعيار المنظم للحقيقة، لم نصل إلى هدفنا و لم نرض معيارنا. إننا نسمي ملفوظا ما ملفوظا"حقيقيا" عندما يتلاءم مع الوقائع أو تكون الأشياء مثلما يقدمها هذا الملفوظ. هذا هو مفهوم الحقيقة المطلقة أو الموضوعية الذي يستعمله كل واحد منا باستمرار. إن إحدى النتائج الأكثر أهمية للمنطق الحديث هو النجاح الباهر الذي رد به الاعتبار لمفهوم الحقيقة المطلقة هذه.
إن هذه الملاحظة تعني أن مفهوم الحقيقة قد تآكل و اهترأ. و في الواقع فإن تآكل مفهوم الحقيقة هو الذي حفز الأطروحات النسبوية المسيطرة في عصرنا. و لهذا السبب فأنا أميل إلى القول: إن رد الاعتبار لمفهوم الحقيقة يعتبر بمثابة أهم نتيجة فلسفية للمنطق الرياضي المعاصر".
حلل النص و ناقشه
.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" الحقيقة يجب أن تكون واحدة بالنسبة إلى جميع العقول على السواء و لا تتوقف على مزاج أحد. و يجب أن تكون كلية أي تمتد في الزمان و المكان فلا تتوقف على لحظة من الزمان و لا على موضع من مكان. إنها صادقة في كل زمان و في كل مكان. و من خصائصها العميقة أنها لا تحمل تاريخا، و ما هو صادق الأمس هو صادق اليوم و سيكون صادقا غدا...
إن مظهر الأشياء يتغير، و الأحداث تنقلب على مدى التاريخ، لكن العقل الإنساني يسمو فوقها و يفسر مجراها واضعا قوانين ثابتة."
حلل النص و ناقشه
[ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" لقد أصبح العقل في مفهومه التقليدي عائقا معرفيا لا ينسجم و المتطلبات المعرفية الجديدة حيث أصبح ملزما بأن يتعلم من التجربة و الخبرة و أن يتكيف معها. كما أصبح التخلي عن التشدد الميتافيزيقي أمرا ضروريا.
لذا فإن العقلانية المعاصرة حينما تؤكد على دور العقل في المعرفة، و في المعرفة العلمية خاصة، لا تعتبره ملكة فطرية، و لا تنظر إليه على أنه شيء اكتمل تكوينه من قبل، أو أنه شيء جاهز، بل تعتبره في طور التكون و النشأة المستمرة، و التأسيس المتواصل."
حلل النص و ناقشه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعرض تصور الحقيقة لتحول جذري خلال القرون الثلاثة الأخيرة، فقد كان القرن التاسع عشر ما يزال خاضعا لفكرة الحقيقة المطلقة، التي يتوصل إليها الفكر عندما يلتحق بالواقع: تطابق الأشياء و العقل... فقد قاد التأمل إلى الطريق الذي سيقود إلى تحرير الحقيقة من طابعها الدوغمائي...
هذا الموقف تقابله أطروحتان متناظرتان... من حيث إن الواقعية تسند الأولوية لواقع خارجي معطى كليا من قبل و قادر على التعبير عن صورته الصائبة و الوفية في الفكر... و من حيث إن المثالية تعطي الأولوية لفكر متحدد و متشكل تشكلا تاما من قبل، قادر على التفكير في الواقع... و قد تم تحقيق تقدم من طرف الفلسفة النقدية لكانط الذي كان قد بدأ في إحداث تقارب بين الفكر و الواقع...
إن مفهوم الحقيقة المطلقة يتعين بالضرورة أن يرتكز على مطلق سابق على كل تجربة بل على كل فكر إنساني. أما المنهج العلمي الذي لا يعرف إلا العلاقة و يود تجاهل المطلق، فيتعين عليه أن يتخطى نقطة الارتكاز هاته."
حلل و ناقش.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" يتم تعريف الحقيقة عادة بأنها مطابقة فكرة لموضوعها، و يقصد بالموضوع إما شيء خارجي مختلف عن الفكر و إما موضوع عقلي.
إذا كان المقصود بالموضوع شيئا خارجيا، يطرح السؤال كيف يمكن للفكرة و الموضوع، مأخوذا بهذا المعنى، أن يتطابقا و هما من طبيعتين مختلفتين. أضف إلى ذلك أنه يستحيل التحقق من هذا التطابق، و ذلك مادام أن الموضوع لا يوجد بالنسبة إلينا إلا إذا تصورناه و تمثلناه في فكرنا بحيث إننا لا نقارن أبدا الفكرة التي نقول عنها إنها صادقة(حقيقية) بموضوعها نفسه بل بتمثلنا له أو بالفكرة التي لدينا عنه.
أما إذا كان الموضوع موضوعا عقليا فإننا نفهم إمكانية مطابقة الفكر له. غير أن هذا الموضوع المعقول لا يوجد هو أيضا، على الأقل بالنسبة إلينا، إلا إذا تمثلناه في فكرنا. و من ثمة فإن فكرنا يكتشف الحقيقة في نفسه.
و في كل الأحوال إن فكرنا يكتشف الحقيقة في نفسه دون أن يخرج عن ذاته. فليست الحقيقة شيئا آخر غير الفكر لذاته."
حلل و ناقش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ